تذكرة عودة: المسبح البلدي بمكناس
تذكرة عودة: المسبح البلدي بمكناس
محسن الاكرمين
يحمل مسبح (المينيسيبال/ Municipal Piscine) أوالمسبح البلدي ذكريات وطيدة في نفوس أجيال متراكمة من ساكنة مدينة مكناس. تذكرة عودة تحضر عندنا من الذاكرة القصية والقريبة بنوع من الإثراء والبهجة عن ماض قد مضى بصفاء ماء (العوينة الصافية ) المغذية لصهاريج مسبح الحبول، وحاضر يعاني منه (المينيسيبال) التردي والنكوص في الخدمات، وبحث من السياسي للتخلص منه نحو ( مُولْ الشَّكارة) من انتهازيي الخواص الجدد.
بصدق تغيرت ملامح المرافق العمومية بمكناس نحو هاوية التدوير، والتفتيت نحو مسالك (الخوصصة)، ولما لا نحو التفويض المستديم (الكراء). عار أنه لم يتم استدراك الإخفاقات المتتالية في تجسير قنطرة أُفق شفاف لسياسة التجديد وتطبيق مفهوم الدولة الاجتماعية الوطنية، ولما لا صناعة الإضافات التنموية بجماعة مجلس مكناس.
في الماضي كان مسبح (المينيسيبال) مجالا بيئيا (حداثيا) يمثل متنفسا أخضرا بمكناس. كان الوادي الجانبي وبدون مخلفات (المياه العادمة) يسلك طريقه بجواره، وباتجاه حدائق (السلاوية) وقنطرة (الفخارين) التاريخية والعراصي الممتدة بالخضرة. كانت مياه (المينيسيبال) تُغيَّرُ يوميا ابتداء من الساعة الرابعة مساء عند (ساعة الإفراغ).
من تسابقنا النزق ونحن صغار السن، من يرتمي أولا في مياهه النقية ابتداء من الساعة السابعة صباحا؟ بحق كانت تلك الأيام الخوالي من الزمن الرفيع بمدينة مكناس البهية والعالية بناسها وطيبة أخلاقهم. ليلة تبييت النية في التوجه إلى مسبح (المينيسيبال)، كنا أصدقاء من حي الزيتون نتقاسم المهام والأدوار والتحضيرات السبقية، فالبعض منَّا كان يُحضر الفلفل المقلي والبادنجال، والآخر يأتينا بمطيشة والبصلة البيضاء والملح والزيت لأجل تحضير (شلادة مغربية / Salade Marocaine)، فيما الآخر فيتكلف بشراء (بطيخة) والخبز وعلب السردين المصبر والزيتون و(لَحْرُورْ)، كانت البساطة والفرحة تسكننا جميعا وبلا موانع طبقية.
من الذكريات الغنية بالدلالة عند (أولاد الشعب)، حين كان الواقي الصحي من أشعة الشمس طبيعيا (آمبر سوليرAmbre Solaire )، نصنعه من الزيت (البلدية) ومن الحامض الطبيعي، والقليل من معقم (الكحول الطبي). كانت تلك الأيام تُماثل جيل (الديباناج / Dépannage)، وبلا إسراف في استهلاك الوجبات السريعة والتفاهة!! طفولة قضيناها في تعلم السباحة بين وادي بوفكران ( البَلَيْصَة قُرْبَ دَارْ الضُّو بمنحدر وادي بوفكران) و(الشَّراشَرْ بحي الزيتون) و(لَعْوينة الصَّافية) و(سواقي اسْلوقِية) و (المينيسيبال). عطلة طويلة كانت تمتد طيلة ثلاثة أشهر(03) نقضيها بين تعلم صنعة أو حرفة يدوية، ثم السباحة والعوم واللعب الحر الابتكاري، وصناعة الفرجة الجماعية الآمنة، ولا نضطر للهجرة الجماعية نحو مدن الساحل الشمالية.
كان(المينيسيبال/ Municipal Piscine) ينقسم في مواضع جلوسه بالعرف (المسكوت عنه) تحت الأشجار السامقة الظليلة (شجرة أولاد حي سيدي عمرو) و( شجرة أولاد حي القصبة) و(شجرة أولاد حي الزيتون) وشجرة (أولاد المدينة العتيقة وما جاورها) و( شجرة أولاد حي سباتا بني امحمد) و(شجرة أولاد برج مولاي عمر) و(شجرة وليدات حمرية) وقد كنا نطلق عليهم حين ذاك (وليدات الفشوش)... كان بحق التعارف بيننا يُوَفِّيهِ الاحترام و كذا الاحتياط من حروب لا تربح معاركها، والحيطة باستدامة الحراسة على الأمتعة والحاجيات.
كان الملعب الصغير المستدير في أعلى المسبح يمينا، تُقام فيه مباريات تنافسية خاصة عند وجود لاعبين من (الكوديم) أو (النجاح) أو (السكك) أو(الدفاع) أو(الأطلس) أو (البرج) أو (سيفيطا)... كان اللاعب (عزيز الحبادي) من النادي المكناسي يُجارينا في (هَبَالْنَا وحَماَقْنَا)، ويلعب معنا مباريات كثيرة، يكون فيها بالطبع هو البطل اللامع، الذي لا يتغير حتى ولو في خسر فريقه أكثر من جولة.
من الذكريات الحاضرة بقوة الاستحضار المرحوم عبد الرحمان/ س الملقب ب (باسيدي) ابن حي بريمة العريق، وإتقانه لفن السباحة العالمية وبكل أشكالها. كما كان يُتقن فن العراك وازدواجية الخصام والتلاطف. كان بمقدوره (رحمه الله) أن يواجه ثلاث خصوم في آن واحد، وهذه مشاهد لازلنا نتذكرها حين صفقنا له بالفخر في شاطئ مدينة أصيلا، عندما دافع بشراسة عن أبناء مكناس من تنمر شباب من مدن أخرى.
من الذكريات (معلمي السباحة / Maître nageur) حيث كانوا بحق يسهرون على الإنقاذ ونظافة المسبح والحفاظ على الأمن والسلامة. وحتى الممرض كان يتواجد بالاستدامة بالمصحة الصغرى بجوار مستودع الملابس، فهل بحق تقدمت مسابح مكناس؟ أم تأخرت لعدة سنين معدودات، وضيعنا (زَعْطُوطْ واللَّبن) مع السياسيين الجدد؟
من تذكرة عودة حميدة، النظافة والتهجئة الصحية العمومية. حيث لن تلج صهاريج المسابح الكبرى حتى تمر أمام ممرض المسبح البلدي، ويكون جسمك خال من البثور (الحَبُوبْ) الجلدية. وبعدها تحت الرشاش، ثم تَغْطس رجلاك في بركة ماء صغيرة يتجدد ماؤها... كان (المينيسيبال/ Municipal Piscine) بحق ذاك المنفذ الآمن لأبناء مكناس وبناته وأسره. كان مدرسة في السباحة والحماية الصحية، والتآخي الاجتماعي التضامني.