مكناس بين التاريخ الذهبي الذي ما انفك يمضي وإخفاقات الحاضر الذي مافتئ يأتي.
مكناس بين التاريخ الذهبي الذي ما انفك يمضي وإخفاقات الحاضر الذي مافتئ يأتي.
محسن الأكرمين.
سألني سائل ببراءة، وليست تحمل أية خلفية مبيتة. ماذا استفادت مكناس من عمليات تثمين المدينة العتيقة؟ وأين وصلت نهايات التثمين؟ (والتي اعتبرها من تعثرات البرنامج الممكنة). وهل المدينة في حاجة إلى تثمين الماضي، أم هي في أمس خصاصة لتثمين حاضرها ومستقبلها بالتنمية الشمولية، والولوج إلى أقطاب المدن الذكية؟ ولِمَ المدينة تُذكر في الماضي بالمجيدة، وفي الحاضر بالمدينة التي أخلفت موعدها مع قطار التنمية الوطني؟ (قارنها مع مدن حققت نهضتها التنموية وبلا مرجعيات تاريخية) وهل عززت مدينة مكناس إنشاء الالتقائية بين مجالها التقليدي/ العتيق ووسطها المستحدث (المدينة الكولونيالية)؟ وهل استطاعت المدينة أن تنفتح على تراثها العمراني (المادي) بعدما كان التبخيس والاستنزاف، أم لازال التفكير حبيس مكاتب الدراسة؟ وهل تم التفكير في صيغ بديلة أخرى لإعادة التوظيف؟
حقيقة تبقى للذكرى، فقد عمَّني الصمت والارتباك لحظتها، ولم أقدر على نَفْي أسئلته نحو سلة المهملات، بل رأيت في كم استفساراته نوعا من استفزاز السؤال الفلسفي، والبحث عن استيفاء المتغيرات القارة والمتحولة بالمدينة. رأيت في أسئلته (الماكرة) تعرية للشأن المحلي بالضبط وكذا التصويب (ما بعد السؤال). وقفت بأنه يجابهني بما ورد في كتاب (هايدغر ضد هيكل / التراث والاختلاف لعبد السلام بن عبد العالي)، ومدى الفارق الشاسع بين الحاضر(المتردي في التنمية) والماضي (الذهبي) في التراث العمراني والموروث اللامادي !!
كاد تمهل الفزع عن الإجابة الصريحة يَرْكبني بالانسحاب الآمن، والاستسلام الطوعي لحقيقة السراب، و لما لا الابتعاد عن المصارحة بالحقيقة. لم أُرِد أن أركب أجوبة السفسطة التي تسكن مدينة مكناس في مجالس (الهضاضرية الكبار). فقد كانت بعض أجزاء الحقيقة الطيعة تأتيني من المنهج التاريخي/ النسقي، لا من الصياغة الوصفية (الفهم والمعرفة) والإلصاق. حين تحركت ملكات التفكير، اعتمدت على مجموعة من المقارنات الرصينة، وأمثلة عن بعض الدول التي استفادت اجتماعيا واقتصاديا من تاريخها القديم (المادي واللامادي) ( ألمانيا/ تركيا/ فرنسا / اليونان...). اعتمدت على الموازنة بين (الحاضر الذي ما فتئ يأتي بمتغيراته وتجديداته المتنافرة، وذاك الماضي الذي ما انفك يمضي بحمولته المزدوجة).
فقد كان من الغباء التام أن أُجيب عن كل أسئلته مهما اختلفت واتحدت في نيتها المبيتة أوالسليمة !! ولكني رأيت مسلكا وسطيا، وأن أُوصله إلى فهم بسيط، وقد يكون ساذجا انطلاقا من الذات السائلة. فحين أحسست أنه يلعب على وتر حساس (ما قيمة صرف الأموال الطائلة على المآثر التاريخية (لا نفع لها في التنمية الجديدة!!)، والمدينة تعيش انتكاسة الحاضر والمستقبل في القبول بأريحية على ولوجيات التمكين!!).
لن أنحو هذا المنحى الذي يلغي البرهان التاريخي، لن أنجرف نحو (براغماتية) نفعية تضيع ماضي المدينة (مهما كان شأنه وقدره المعياري). لذا سألته عن شجرة أسرته، فأطلق عنانه من الأب إلى جده الرابع. أطلق فهمه وقوله عن (دار الورثة) و(دار الأجداد). أطلق لسانه تصريفا غير ناقص عن مناقب أسرته بالتعداد والترتيب والتذكير والتأنيث !! ناولته سؤالا آخر: وهل لك ما يفيد ذلك من الوثائق القديمة والمحفوظات؟ هنا أحس بأنه فارس زمانه المغوار، وأتاني من حيث لا أحتسب بمجموعة من الموارد ذات الفخر والتنصيب الأسري ضمن الطبقات (الأرستقراطية) المكناسية (الباشاوات والقياد...). قلت له بغبائي المعهود: وهل لكم ذكر في مؤلفات التاريخ بمكناس؟ فرح من سؤالي، واستعرض بحكي (الثرثار) الصفحة الأولى بعد المائة من الجزء الرابع من كتاب (إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس/ لابن زيدان عبد الرحمن بن محمد السجلماسي)، وبين لي أسناد (الخيمة و(الكِيطُونْ) الذي دُفن به جده الأول) !!
الآن استوفيت مرادي وغايتي، وقلت له: وهل تحتفظ بكل هذه الذكريات الجماعية والفردية عن فرع شجرتكم الأسرية؟ فرح كثيرا من سؤالي الأبله، وأجاب بالإيجاب القطعي. هنا فُكتْ عن لساني عقده الملتوية، وتحررت من سلسلة الاكراهات السبقية، وناولته بالمضادات القصفية، كيف تسرد لي تاريخ أسرتكم (العريقة) في التاريخ، وتبخس على مدينة مكناس استرجاع ولو أجزاء من تاريخ عمرانها المنهوك بالتبخيس والتهميش !! كيف تسألني وأنت تحتفي بتاريخ أسرتك الفردي... لا الجماعي بالمدينة التي احتضنتهم منذ زمن الهجرات!!؟
لم أفطن به مشيا وهو يجر رجليه داخل بلغته البلدية (العتيقة)، ويفر من أمام كلماتي المسترسلة، لأنه عرف قصدي ومدى متممات حنقي المعهود. والذي دائما يحمل المورد التاريخي للمدينة علوا شاهقا، ويبحث عن حاضر مكناس في التنمية الالتقائية، وعن أناقة التسويق والتطوير وإعادة تشغيل المدينة وتوظيف تراثها (المادي واللامادي) كفرصة ذهبية من الماضي للحاضر وكسب الرهانات المستقبلية.