تثمين المدينة العتيقة لمكناس… مشروع ملكي يعيد الحياة لتراث عالمي بعد ثماني سنوات من الانطلاقة
تثمين المدينة العتيقة لمكناس… مشروع ملكي يعيد الحياة لتراث عالمي بعد ثماني سنوات من الانطلاقة
مكناس – عبد الصمد تاج الدين
ثمان سنوات على انطلاق ورش وطني استثنائي
حلت يوم 22 أكتوبر 2025 الذكرى الثامنة لتوقيع اتفاقية برنامج تثمين المدينة العتيقة لمكناس، التي جرت مراسيمها بين يدي صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله يوم 22 أكتوبر 2018 بالقصر الملكي بمراكش. كان ذلك التوقيع لحظة مفصلية في مسار حماية التراث العمراني الإسماعيلي، إذ أطلق دينامية جديدة لإعادة الاعتبار لمدينة يعود تصنيفها تراثا عالميا لليونسكو. واليوم، وبعد مرور ثماني سنوات، تبرز تساؤلات مشروعة حول وتيرة الإنجاز، والعراقيل التقنية والإدارية، وحجم التواصل المؤسساتي مع الساكنة المحلية.
أوراش متواصلة… وتحديات قائمة
إلى غاية أواخر 2025، ما تزال الأشغال متواصلة بعدد من المواقع التاريخية الكبرى، من بينها: قصر المنصور، هري وسهريج السواني، حبس قارة، الأسوار الإسماعيلية، ساحة المشور، المدرستان الفيلالية والبوعنانية، برج باب الناعورة، باب الرحى، باب الجديد، وشارع السكاكين، إضافة إلى مشروع المرآب تحت الأرضي بسعة 400 مركن، وتهيئة المدارات السياحية الأربع.
ورغم أهمية هذه الأوراش، فقد ظهرت تحديات تقنية؛ أبرزها تأثير الرطوبة على بعض الأسوار الطينية، والحاجة إلى تطوير منظومة الإضاءة الخاصة بالمآثر، إلى جانب غياب رؤية واضحة لإعادة توظيف المواقع بعد الترميم.
الوكالة المشرفة: الجودة قبل السرعة
أكد مسؤول بوكالة إعادة التأهيل والتنمية بفاس (ADER-Fès)، المشرفة على البرنامج، أن وتيرة الأشغال مضبوطة وتراعي حساسية التدخل داخل نسيج تاريخي. وأوضح أن الترميم لا يخضع لمنطق السرعة الذي يميز المشاريع الحديثة، بل يحتاج دراسات هندسية وتقييمات ميدانية مستمرة لضمان حماية أصالة البنية العمرانية.
وأكد نفس المصدر أن نسبة التقدم ببعض المواقع تجاوزت 80%، فيما بلغت أوراش أخرى مراحلها النهائية، مشددة على أن الأولوية اليوم هي جودة الإنجاز واستدامته، مع الانفتاح على مرحلة ما بعد الترميم وإشراك مختلف الفاعلين المحليين.
التجار… بين الترحيب والتحفظ
تباينت آراء التجار بخصوص الأشغال الجارية، خاصة بشارع السكاكين والبزازين وصولا إلى باب الجديد. فبينما رحب البعض بتحسين الممرات والواجهات وتأثير ذلك على الحركة التجارية، اعتبر آخرون أن بعض الأشغال تحتاج مزيدا من المراقبة التقنية وضبط الجودة. ودعا هؤلاء إلى إشراك المهنيين بانتظام في تتبع الأوراش لضمان نتائج منسجمة مع خصوصية النسيج التجاري.
الباحثون… دعوة إلى رؤية أشمل
أكد الأستاذ عبد العالي بوزيان، نائب رئيس اللجنة المغربية للإيكوموس وباحث في علم الآثار، أن تقييم حصيلة البرنامج بات ضرورة ملحة، مقترحا جعل يوم 22 أكتوبر موعدا سنويا لعرض مؤشرات التقدم أمام الرأي العام. وشدد على أهمية رؤية تواصلية واضحة، ونماذج مبتكرة لإعادة توظيف المعالم عبر الهندسة الثقافية والرقمنة والصناعات الإبداعية.
وأوضح بوزيان أن بعض المواقع المنتهية أشغالها لا تزال تفتقر إلى تصور واضح لوظائفها المستقبلية، خصوصا ما يتعلق بالإضاءة، وإعادة التوظيف الثقافي والسياحي، ودمج المآثر في محيطها العام. كما نبه إلى بروز اختلالات تقنية مرتبطة بالرطوبة وبكتيريا العمارة الطينية، وعيوب في أجزاء من الأرضيات.
واعتبر أن برنامج التثمين الذي أنعم به صاحب الجلالة على مكناس ليس مجرد صفقات أو عمليات هندسية، بل مشروع ثقافي شامل يحمي القيمة اللامادية للتراث ويضمن استدامته للأجيال المقبلة.
صوت التجار… قراءة من قلب الأسواق
من جهته، اعتبر السيد العزيز محمد، رئيس جمعية التواصل والتنمية لتجار مكناس في تصريح خص به الصحراء المغربية ، أن المشروع مكسب كبير للمدينة العتيقة، رغم أن انطلاق الأشغال تسبب في فترات من الركود أو الإغلاقات المؤقتة. لكنه أكد أن “حجم الإصلاحات وجودتها” جعلا ذلك ثمنا مرحليا لمستقبل أفضل.
وأشار إلى أن البرنامج شمل إصلاحات مهمة في البنيات التحتية، من تجديد شبكات الصرف الصحي والماء الصالح للشرب، إلى إعادة تبليط الأزقة وتأهيل الواجهات الخشبية التقليدية، في انتظار تركيب الواقيات الخشبية التي ستمنح الأسواق طابعا جماليا شبيها بفاس ومراكش.
كما نوه بزيارات السيد عامل مكناس المتكررة للأوراش، والاجتماعات الدورية التي يعقدها لضمان مراقبة دقيقة وتنسيق محكم بين مختلف المتدخلين، إلى جانب التتبع المستمر للجان التقنية المختصة.
مكناس بين الأمل والمسؤولية
ورغم التحديات، فقد حقق برنامج تثمين المدينة العتيقة مكاسب بارزة في صون المآثر وإحياء الذاكرة العمرانية الإسماعيلية. غير أن المرحلة المقبلة تتطلب تسريع وتيرة الإنجاز، وتعزيز الحكامة، واعتماد رؤية ثقافية وسياحية تعيد الحياة للمواقع بعد ترميمها. فالتثمين الحقيقي لا يقتصر على ترميم الحجر، بل يقوم على إشراك الإنسان، باعتباره الطرف الذي يمنح هذه الفضاءات نبضها عبر الثقافة والسياحة والحرف والصناعات الإبداعية.














