إدريس زايدي : من جرح المكان إلى اجتراح الذاكرة قراءة في ديوان " كم جرح في المدينة" للشاعرة أمال الصالحي
إدريس زايدي : من جرح المكان إلى اجتراح الذاكرة قراءة في ديوان " كم جرح في المدينة" للشاعرة أمال الصالحي
في شعرية الذات والمدينة لقد كان الشاعر يمتلك حدسا قويا تجاه واقعه. فيغوص في تفاصيله باحثا عن الأسباب والعلل التي يخفيها مظهر الواقع الذي يبعث على الشعور بالهزيمة وضياع القيم الإنسانية. وأمام هذا الشعور بعدم القدرة على مجابهة هذا الانكسار في الواقع، لغياب العدالة الاجتماعية، راح يبحث عن مخاطب يستنفر طاقاته ومشاعره متسائلا عن جدوى هذا الوجود، مستفهما ومستنكرا ما يعتور الإنسان من إحساس بفقد كينونته، بين الموت والدمار وأصناف الاغتصاب المادي والمعنوي. كما راح يبحث عن ثقافته وجذورها الضاربة في عمق التاريخ الإنساني.
وقد حركت المدينة الشاعر، حين وجد فيها عددا من مظاهر الفقد والظلم والضياع، وسعى إلى التخلص منها رافضا كل القيود التي يترجمها الشعور بالاغتراب والضياع في سراديبها. وكانت فكرة الهجرة أحد الدعامات النفسية والمعنوية التي رافقته كلما أسعفه الحظ على ذلك، سواء في جغرافيا الأرض أو مجابهة عالم الظواهر التي لا يستكين إليها، أو في عالم الإبداع والشعر. فكانت الكلمات عالمه الوحيد في حله وترحاله، يبني تارة ويهدم أخرى، بحثا في المضايق عن توازن مستحيل.
لعل من ضرورة الدخول إلى عالم الشعر في ديوان ما، أن تسأل نفسك عن أي باب سيمنحك العبور إلى تفاصيل الكلام وفحوى مضمونه. وهو بالقدر الذي ينفتح من خلال واجهته، يحملك على أن تقيم علاقة قصدية أولية، تكون فتحا لأسئلة في سيمياء الحرف واللون وسياقات التركيب، لتركب متاه البحث عن أبعاد اللغة الحضارية والجمالية، قد لا تكون طيعة الفهم إلا بقدر ما تطلبه القراءة وإعادة تأويل البنيات الشعرية. وهي عملية تنفتح على متواليات تأويلية عدة، تستهدف بلوغ الرؤية الثاوية في أقاصي المعنى.
والنظر إلى الكتابة الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة، سواء في البلاد العربية أو خارجها، تطرح أسئلة عدة على خلاف شعراء الرومانسية الذين انفلتوا من المكان وبالمكان، فحملوه هربا ببكائهم، بحثا عن عالم جديد وحرّ، أكسبهم غنائية ساحرة، حركت فيهم الحب والحنين ومنادمة الطبيعة في أبهى تجلياتها. وهم كذلك فقد نسجوا أسئلة وجودية ما تزال تطرح نفسها على كل من انفصل عن مكان مولده طوعا أو كَرها، بحجة عدم استقرار الذات بمفهومها الثقافي. وهو الأمر الذي يمكن أن نعثر عليه في شعراء المهجر الأخير، مع تشابه في التجربة واختلاف في التعبير.
والمتأمل في الكتابة الشعرية، لا يجد عناء في استخلاص الحُكم بأن تجربة المهجر قد عرفت تطورا ملحوظا بسبب الوعي الثقافي في زحمة الحضارة وإشكالاتها المتنوعة، بين ماض يحفظه التذكر وحاضر لا ينبئ باستقرار المصير. وأمام هذا الجرج العام تنكشف جراحات تعلنها الواجهات اللغوية والحضارية، لتشكل ذاتا أخرى تبحث في المضايق عن عبارة تتعالى على الأفق. فيصبح المكان/المدينة فضاء لتصريف القول الشعري، ورحلة خارج الأمكنة والأزمنة، ليتمدد عالم الشعر، يستنطق الاجتماعي والسياسي والثقافي، وكأن لغة الشعر هي الجسر الوفي للعبور إلى أقصى عوالم الذات المحاصرة بشتى أنواع الصراع مع الذات كما الآخر.
وهو ملمح تشتغل عليه الحداثة الشعرية وهي تناهض القوالب الجاهزة المعيارية، حيث تقوم على الهدم والبناء ومساءلة مستمرة للوجود. بل أمست الحداثة روحاً أكثر من كونها شكلاً، وحالاً أكثر من كونها صيغة، إنها ثورة فكرية، وهي كما يقول أدونيس: "جوهرياً رؤياً ، تساؤل ، واحتجاج: تساؤل حول الممكن واحتجاج على السائد، فلحظة الحداثة هي لحظة التوتّر، أي التناقض والتصادم بين البنى السائدة في المجتمع وما تتطلبه حركته العميقة التغييرية من البنى التي تستجيب لها وتتلاءم معها"
وكتاب ( كم جرح في المدينة) للشاعرة آمال الصالحي، موسوم ب(شعر) عن المصرية المغربية للنشر والتوزيع، ط 2023. أدرجته الشاعرة ضمن (إبداع مغربي)، ويتوسط الغلاف لوحة مهداة من الفنان التشكيلي أحمد الجنايني، وتصميمُ الغلاف للفنان دانيال نادر. واللوحة تعبر عن فوضى لألوان عدّة، منفجرة كبركان ينطلق من فوهة بئر، ويحمل فوقه شخصا أسود البشرة، ممددا بلباس أبيض. والكتاب يقع في 159 صفحة، يضم واحدا وستين نصا، مصدرا بإهداء إلى أب توفيّ وأمّ تعتبرها الشاعرة جسرا إلى الجنة. وعلى ظهر الغلاف صورة الشاعرة في أعلى اليسار مقرونة بمقطع من قصيدة (مشهد) تختمه بقولها :
كل من في المدينة يرتب عالمه في صباح الشتات
كل من في المدينة يجمع أشلاءه من جميع الجهات.
ولعل هذا المقطع يلخص إيقاع رؤية الشاعرة للمدينة كفضاء للشتات والأشلاء من جهة، وفضاء لإعادة البناء الشعري من جهة ثانية.
ولدخول عالم الديوان نرى من الأنسب الوقوف على ما اجترحته الشاعرة في مجمل النصوص، وهي تترجم وقوفها على الأمكنة المختلفة، غربية وعربية، يوحد بينها انهيار الأبنية القيمية والثقافية، نتيجة تنوع أشكال العنف المادية والنفسية والاجتماعية التي أدت إلى سقوط المدنية التي ما فتئت حركية الشعر الحديث والمعاصر تنشُدها. وهو ما يعبر عنه مجمل عناوين القصائد التي تحمل من معاني الجرح ما يثبت دلالة العنوان، التي سنقف عندها، والأبنية الدلالية للمعجم من خلال تداول سياقاته وتراكيبه، جاعلين من علاقة الجرح بالمدينة خلفية هذه المقاربة.
العنوان
يتكون العنوان من جملة اسمية مصدرة ب(كم) الخبرية مضافة إلى ما يميزها وهو (جرحِ) الذي جاء مفردا لإبراز الكثرة. و(كم) احتلت موقع المفعولية لفعل مضمر دل عليه الإخبار، وتعلق به الجار والمجرور لتحديد الظرفية المكانية للخبر، من خلال (في) الدالة على التحديد والإغراق في فضاء هو (المدينة). والمدينة كفضاء مجالي مغلق يحمل بُعدَ التجاوز لكل محددات المدَنية من خلال استعارة لفظة (جرح) الذي يدل على طبيعة هذا الفضاء الذي تمت أنسنته عن طريق الاحساس بالألم الذي يرافق الجرح. والعنوان بطبيعته الاستعارية يقرن فضاء المدينة باتساع الرؤية التي تُبئرها(كم) ليصبح الجرح أكبر من إدراك العقل، ويفتح للتخييل أبواب الرحلة في أفضية شعرية متعددة. فالشاعرة تستلهم من الواقع شعرية الكلمات، إذ يتحول مجمل الديوان إلى معادلة رمزية لواقع موبوء تشعله المدينة وتحضن جمرَه ورمادَه، لتمارس على الشعر قلقا وجوديا لا يستقر على بنية نفسية واحدة، فتصبح المدينة تبعا لذلك فضاء نفسيا تشعبت دروب القول فيه، بين الشام وباريس وتونس وشفشاون وغرناطة وبراغ وجزر الكناري وغيرها من الفضاءات التي زارتها الشاعرة لتجدد جرحها الشعري في تفاصيل العمارة والطبيعة والنفس والإنسان.
والمكان بما أنه فضاء حامل لمحمولات الرؤية الذاتية، يتحدد بالعلاقات التي نسجها الحالُّ فيه. فهو الباعث على إيقاظ المشاعر والأحاسيس التي تسكن الارتباط الذهني بالصورة المخزنة، حتى لكأن المكان هو تلك القدرة على بعث الكلام، كما قال الشاعر مجنون ليلى ( قيس بن الملوح):
أمر على الديار ديار ليلـى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
من هنا يصبح المكان فضاء لتصريف الموقف، وكأن المكان يتبادل الدور مع الحالّ فيه، في حوارية لا تنفصل عن مجمل التحولات التي تنشأ عبر السؤال والجواب، مضمرين في لغة الشعر التي تتأسس على عملية البناء والهدم، وكأن الكتابة هي لعبة تراوح بين الموت والحياة حين يصبح التأمل عنوانا للجرح، والتخييل بنية للسفر في الضياع. إنها لغة الشاعرة أمال الصالحي التي استوحتها من قراءة واصفة للرحلة بين الجرح والمدينة.
شعرية الموت والحزن في المدينة :
الحزن42 - الوجع 25- الفرح 20 - الحنين 17 – الشوق 13 – الحب 59 – الحبور 3- التيه 5 - أغنية 10- اللحن 11- النبيذ 3 – قصيدة 25 -الحرب 12 – الموت 11 – الحياة 13 – الحبر 8 - 277
المدينة 37 - مكان 13- الطريق 17 – السفر 5 – رصيف 4 - العين 27 – النوم 17 – الغياب 21 – الظل 44 – اللون 21 206
فصول4 – شتاء 3 – صيف 6 – خريف 8 – ربيع 7 – شباط 3 – أيلول 2 – الليل57 - القمر17- الفجر6 – النهار8 – المساء 26 147
فانطلاقا من هذه العملية الإحصائية للمعجم الوارد تكريرا في نصوص الديوان، نبادر القول بأن الموضوعات التي تم التعبير عنها تتعالق في الرؤية الشعرية عند الشاعرة. بحيث يشكل قاموس الحزن وما يتعلق به من ب277 لفظ ، ويشكل قاموس المكان 206 لفظا، والزمن 147 لفظا. وكان لهذا التوزيع أثر في تشكيل ثالوث الذات والزمن والمكان كبؤرة للحركية الشعرية عند الشاعرة، يأتي في مقدمتها مشاعر الحزن تساوقا مع كم الخبرية الواردة في عنوان الديوان لإبراز الوفرة والعدد. ولما كان الحزن حالة وجدانية لا ينهض بعيدا عن البواعث المحركة له، أصبحت كل الأشياء والأماكن تتشح بالجرح من حيث الرؤية التي تستبطنها الذات الشاعرة.
فالشاعرة وظفت عددا من أسماء المدن، عربية وغربية. فهي تشبه السندباد في جغرافيا الذات المحاصرة بالشعر، والتي تعيش قلقا معرفيا، حيث تبحث عن جواب لأسئلة وجودية تسكن الذات. وقد أوردت في ديوانها كلاما لإبراهيم نصر الله الذي يقول:
" لم أدخل مدينة إلا ومنحتني عينين جديدتين، لم أدخل مدينة إلا واكتشفت فيها ما لم أكن أعرفه عن قلبي" .
فتعلق السؤال بالبحث عن معرفة الذات من خلال ما تمنحه الرحلة في/بين المدن. وهو ما يجعل من السفر وعاء للمعرفة بتعبير أهل التصوف والتأمل الفلسفي عند الفلاسفة. هي رحلة البحث عن التخلص من قيود المدَنِيّة الزائفة والمليئة بنتوءات جريحة لا يستكشف أغوارها إلا من امتلك عينين تتجددان باستمرار كلما تأملتا في إشكالية الموت والمصير. لذلك نرى الشاعرة منذ الإهداء تستحضر والدها كما تستحضر أمها، على خلافٍ بين موت محقق وآخرَ لاحق، لا تؤمن بمفهوم الزمن إلا كامتدد في الروح الأزلية، وكأن الموت أسطورة تلغيه الشاعرة بنظرة استخفاف، جريا على قول فاروق جويدة :
(أنا ما حزنت على سنين العمر طال العمر عندي أم قصر لكن أحزاني على الوطن الجريح وصرخة الحلم البريء المنكسر )
ففي النص الشعري الأول ترثي الشاعرة أباها تحت عنوان ( أبي...) افتتحته باستفهام:
( أأرثيك يا أبي ؟/ وكيف يرثي غيمَهُ المطرُ ؟/ أغفو وفي النفس حاجات إليك،/ أصحو وبالحزن حزنٌ،/ بالليل ظِلُّ الأسى،/ بالذاكرة نقش الفرح الماضي،/ بالفرح الحاضر حضُورك القديمْ)
فالشاعرة تستفهم عن لا جدوى الرثاء، ثم تتمرد على فرحها الحاضر باستعادة ذكرى حضور أبيها رمز الفرح الماضي، وهو ما يستدعي عبثية العلاقة مع واقع الحزن الذي يستغرق الزمن كله. وكأن عمر الأنسان يقاس بزمن الحزن الطويل في وطن جريح يحتوي تعاقب الأحزان.
هكذا تصور الشاعرة تجربتها المنصهرة في البحث عن علاقة تجمع بين المحدد وغير المحدد. إذ أن عمر الفرد ليس سوى لحظة عابرة تعبر عن عمر أحزان ممتدة في ذوات أخرى. والجرح عند الشاعرة تعبير عن معاناة إنسانية مختزلة في ديوان يتعالى على الزمان والمكان، وإن كان حضورهما يتجلى رمزا من خلال الشام وشفشاون وغرناطة.. أو أي مشهد تلتقطه عين الشاعرة لتمثله في الكلمات. إنها رؤية مأساوية تراجيدية تنظر إلى موت الأب لحظة مفصلية في تحرير الواقع من الخوف حين تستشهد بعدم الاهتمام بقصر العمر أو طوله. فتصر على أن تكون الحياة في الشعر تعبيرا عن آلامها وأحزانها، متشبثة بسيولة الإحساس في لغة مفعمة بمعجم متنوع في تجليه، ومتحد في دلالاته ومعانيه، وفق سياقات شعرية تتسم بالانكسار والانتظار بتعبير الشاعر عبد الله راجع.
إن الموت باعتباره جرحا يرتبط بالفقد، فقد جعلت منه الشاعرة تجربة للتأمل في مصير الإنسان بعد أن شغل حيزا زمانيا لتجربة الحياة، بكل أفراحها وأحزانها وأحلامها، مما يبعث على أن فلسفة الوجود تظل أكبر من الحياة. ويظل الموت تجربة للصراع الأبدي مع الحياة. وقد برع الشعراء منذ الأزل في استلهام أساطير الموت، فجعلوه بداية لحياة أخرى على مستوى التخييل والتأمل. فأسطورة الموت والانبعاث ظلت تطارد الأنسان، لذلك نجده يبحث عن كيفية التخلص من شبح الموت في حله وترحاله، وفي حركاته وتصرفاته. والشاعر في شعره وقصيدته، تقول الشاعرة في الإهداء، مستلهمة من الأسطورة إصرارها على الحياة:
إلى أبي... اِسمي مقرونا باسمك، ليظلّ امتدادا لروحك على هذه الأرض.
إلى أن تقول في قصيدة " قصائد الهزيع الأخير" :
(الموت تلَفٌ،/ لا يعني شيئا،/ للذين لا يتقنون صناعة الحياة./ إنا نعيش أحزاننا/ رغم تراجيديا الموت ورغم المأساة).
وفي قصيدة "لو يسألوني عنك" تقول:
(كيف يرتدّ المعنى عن غد حافل بالموت الجميل؟/ أجدّف في الأبيض البعيد/ كلما ضاقت لغتي/ أتجنب لقاء حرجا مع أمسي/ وأمتهن الأمل لكي لا أوقظ غدي السجين).
فالشاعرة تعتبر الموت موضوعًا مركزيًا يشغل تفكيرها، تناولته في علاقته بالوجود الإنساني مبرزة معاناة الإنسان وقلقه وهواجسه تجاه الطبيعة وتقلباتها. وتستكشف الشاعرة قضية الفناء والبقاء، وحياة الإنسان المؤقتة. وهي بذلك تعكس التجربة الشخصية ومشاعرها تجاه الموت، بلغة شعرية تعبر عن الخوف والأمل في مواجهة النهاية. كما أنها تسعى للتحرر وتجاوز هذه الهواجس الوجودية والانفتاح على معاني الحياة والموت. الذي وظفته في صيغ سياقية متنوعة، منه ما يعبر عن سلطة الطبيعة ومنه ما يعود لصناعة الإنسان كالحروب وغيرها، ومنه ما يعكس رؤية الشاعرة الثقافية الفلسفية والوجودية، يضطلع بها السؤال الأنطولوجي المرافق لشعراء الحداثة الذين نظروا إلى الحياة نظرة قلقة بسطت شكوكها في كل الأشياء، وكانت المدينة مسرحا للتعبير عن الغربة في أشعارهم، وفضاء للقيم المتناقضة كالحرب والحب والضياع. تقول الشاعرة في قصيدة " تيه" : (هذي الحرب تقرع طبولها،/ وأنا... أحمل عمري بين المعارك) وفي قصيدة "جرح المدينة" تقول:
(تملُّ الحربُ من الحربِ حين تطول/ يصير الموتى أرقاما بلغة الدم/ تستحيل أسباب البقاء والرحيل)
وفي قصيدة" أيا بلادي اتعظي" تقول:
( بلادي موت يمشي على قدمين،/وجه يابسٌ محروق بالأغلالِ،/ جنديّ قديمٌ،/ بزيّ مقاتلٍ،/ يضفر الأحزانَ،/ في ليل السّجونْ،/ يعزف أغاني الحربِ)
وأمام هذه الصور القاتمة التي نسجتها الشاعرة تؤكد أن الشعر هو موطن إعادة بناء العالم، حين تصبح البلاد معادلا للموت من خلال بلاغة التشبيه الذي يعتبر أحد روافد القول الشعري، وقد انتزعت صورة الموت من كائن يمشي على قدمين، لتؤكد أن علاقة البلاد بالموت هي علاقة الإنسان بوجوده الذي يصارع التحلل والتفكك والدمار، وكلها من سمات الموت الذي يطارد الحياة بفعل الحروب وانهيار قيم الحب، ولم يبق للشاعرة سوى عالم الشعر الذي تعبر من خلاله عن جرح الذات وصراعها مع الآخر، جاعلة من الشوق حبرا لبناء صورة الذات وهي تجابه حربها، تقول في نص " شوق " :
( لا تجزع يا حبيبي من جرأة الحبر،/ فنار الحب استعَرَتْ في ساحة الحرب../ حين جاء القصيد يعصف آخر الليل/ على الواحدة بعد منتصف الشوق/ ارتفعت أصوات البنادق../ تعالى أزيز الرّصاص،/ وارتجّت أوصالي)
وتقول في قصيدة "وطن العواصف " :
( هذي عيونُ بلقيسَ تبكي يَمنَها/ فهل في القلب متّسع للذّاتِ ؟/ تَسقيني دموعٌ تبحث عن شعرٍ جديدٍ/ عن نزهة حبّ قصيرةٍ) ،
فالشاعرة تستجير بالشعر، في رحلة بين ثلاثة عناصر: المكان، الذات، واللغة، فتولد من خلالها السؤال عن كيف يمكن للقلب أن يستوعب الذات. وهذه الأخيرة(الذات) باعتبارها ثقافية، لا يمكن أن تتسع إلا من خلال عالم اللغة الذي لا يحده المكان ولا الزمان، بل يتجه نحو البحث عن عالم جديد في الشعر يقوم على الحرية الذاتية في الحب، بعيدا الحرب التي تجتاح البلاد العربية.
المدينة وفداحة الرؤيا
إن تقويض مركزية المعنى القاموسي المباشر للألفاظ، هي مهمة الشعر كي يقوم بدوره الفني والجمالي. فيتحول الجرح في الديوان عن معناه الحرفي كما تتحول المدينة عن فضائها الفيزيقي، ويسافر النص في معاني أخرى، معلنا خرق الأقنعة، وهتك أسرار اللغة.
والشاعرة أمال الصالحي تعيش على إيقاع الزمن في بُعده الواقعي والإنساني، وفي هذا السياق المأساوي تستحضر المدينة كأشلاء يتنازعها الدمار في القيم والديار. فترحل لتجعل من سقوط حلب سقوطا للشام كله، بتعبير صلاح الدين الأيوبي " وإذا سقطت حلب، سقط الشّام كله"، تقول في قصيدة (جرح المدينة): تملُّ الحربُ من الحربِ حين تطول/ يصير الموتى أرقاما بلغة الدم/ تستحيل أسباب البقاء والرحيل/ يبكي الحمام بصمت / تزداد الحياة موت / تخضرُّ على راحة القبور/ تلمع الخناجر عند أول الليل/
تتحنّى الأيادي بالدماء/ تدمع العين الكحيلة / ويزهو الجلّاد منتشيا بلحم الشهداء ....)
وبهذه اللوحة الاستعارية للنص، تجعل الشاعرة من الحزن غطاء بنيويا لرؤيتها الشعرية، موظفة إلى جانب لغة المجاز أسلوب المفارقة الجمالية، بحيث جعلت من ثنائية الحزن المتعدد في صوره وتجلياته معادلا لانتشاء الجلاد بقتلاه. فعبرت المعادلة عن سخرية القدر، حين سوّتْ المفرد بالجماعة، أي بين القاتل والمقتول من خلال الجلاد والشهداء. وفي قصيدة: (وطنُ العواصفِ) نلمس فداحة الرؤيا في الذات والأشياء والأسماء، فالشاعرة بين توصيف لمكان يلفه سواد الليل، هو وطنها الجريح الذي يسع كل ثقافة العروبة، إنها نستالجيا تاريخية عن بلاد الشام الحزين، وما لحق به من دمارٍ شاهدٍ على سقوط جمال الوطن، حيث أمسى المكان اغترابا نفسيا ولوحاتٍ مفرغةً من معانيها، محطمةَ البنيان وأصواتِ الحمائم والمآذن. لكن الشاعرة لا تستسلم لهذا الضياع حين تجعل من مستلزمات الدمار آلية للبعث والولادة المتجددة بعبارتها (إنه وطن الحزن الولود). وبهذه العبارة توسع الشاعرة من دائرة حزنٍ تحمله ذكرى ذاتية، يسكنها كما يسكن التاريخ العربي منذ عهد بني أميّة، الذي أصبح يداس فلا يستثني لحظة شعر أو حب، فيتعمق الجرح حين تكتشف أن ما تعلّمتْهُ لا يحيل على الجنة ولا على نخيل العراق ومجده، تقول:
( علّموني أنّ الشّام جنّة الدّنيا / والعراق نخيلها/ فما بال مُلْكِ بني أميّة يُدَكُّ؟)
فالشاعرة تستحضر أسماء الراحلين والموتى مستفهمة منكرة ما لحق الشام من خراب بقولها:
(كيف ينبت الورد على ساعدي؟/ كيف تحيا كلّ هذي الخرائب القديمةِ ؟/ لكنني سأُعَوّد
قلبي على جراح الزّمانِ/ كي لا يُرديني جسدٌ مثقلٌ بالخيباتِ.)
وللشاعرة في قصيدة (تيه) جرح غائر ناتج عن الفقد التاريخي المتمثل في معنى الأبوة، تقول:
ةة( أنا حزينة يا أبي)
حيث تمتد الأبوة لتعم كل الأوطان. وبهذا المعنى يصبح الأب رمزا رسوليا ممتدا في الذاكرة، وكأن الاحتماء بالأب سبيلٌ لتخفيف حدة الحزن. فالعبارة جاءت تقريرية تعكس ثبات حزن لا يمكن أن يصدقه إلا من في مرتبة الأب، لكنها تعود لتشكك في قدرتها عبر أسلوب استفهامي دال على استحالة الوصل مع العالم حين تقول:
( كيف أكتب شعرا وأربح في الحبّ؟ / كيف أستعيد حلما فرّ من نومي؟/
كيف أرجع من غيابٍ وأزفّ أمنيات الجدّاتْ؟)
هكذا يصبح تعذر الكتابة والحب واستعادة الحلم والعودة من الغياب أمرا لا يحقق للذات توازنها ... لدرجة محاصرتها بالمنع من معانقة دمشق، تقول:
كيف السّبيل إلى دمشقَ وقد غادرتها كل القطاراتْ؟
ولا سبيل لذلك إلا بعودة الأب الذي سيوقف نزيف الجراحات:
( لماذا يا أبي تُطيل النهاية ؟)
وأمام هذه الملحمة المشؤومة تعلن الشاعرة تمردها على واقع الإنسان العربي الذي يصارع الموت. وهو إحساس بروميثي في بنية القصيدة أمال الصالحي التي لا تركن لمسلمات الواقع غير المطمئن في مدَنية المدينة، سواء في باريس أو جنيف أو غيرهما... فهي كلها أماكن لاختبار الألم والحزن ومنازلة مشاعر الإنسان. بل لا يقتصر هذا الإحساس بما يقع في بلاد الشام، وإنما تجعله سبباً لاستعادة تاريخ الأندلس واستحضار مدنه كغرناطة وقرطبة ومالقة... كما تقرن مدينة شفشاون بغرناطة في صورة تحدِّث المشاعر بلون الجدار الأزرق، تقول في قصيدة شفشاون:
( غرناطة الصغيرة / مدينة بملامح البحر / تطوي الأزقة بألوان الحياة / وعطر الملائكة /
للزّرقة فيها وطن لا ينام/ يمتدّ إلى ألف لغة...والمدينة ما تزال نائمة)
فالشاعرة تعبر عن حجم المدينة وجمال لونها الأزرق البحري، وتستعير لها من الأنسان صفة المشي بين الأزقة الزرقاء، واللون فيها رمز لحياة تتحقق بتنوع لغات الشعر، من خلال مهرجان المدينة الثقافي الدولي الذي يحضره كبار الشعراء من العالم. فيصبح المكان عند الشاعرة استبطانا للذات الثقافية، تحاور من خلاله لحظات الحضور الشعري، عبر لازمة إيقاعية تفصل بين توصيف الواقع واستحالة تحوله، دليلا على مكر اللون المنتصر على باقي الألوان، وكأنه عنوان لحزن رتيب في الحياة، فتنتفض الشاعرة حين تقول:
( في شفشاون / عليك أن تجد الوصف في لغة أخرى / لتجابه زرقة المدينة التي لا تنام)
ثم تقول عن المدينة أيضا :
( للزّرقة فيها وطن لا ينام / يمتدّ إلى ألف لغة...والمدينة ما تزال نائمة.)
هكذا تصبح لغة إثبات النفي أداة لتعميق الرؤية ( المدينة التي لا تنام = المدينة ما تزال نائمة) وسيلة لترتيب جمالية المدينة المحاصرة بين لغة الحنين ولغة الأنين، ويصبح النوم مرادفا للزرقة ، تكلمهما عبر تفاصيل أغنية متعبة، يحملها المسافر في إحساسه بالضياع ، فيحتمي برؤية واعية تلتئم بالهجرة في التيه، تقول:
( تنصت لصواب قلبك / تهاجر إلى ما لست تعرف / حيث تأخذك ريح الشمال.)
وفي قصيدة (تونس) ذكرت الشاعرة مجموعة من المدن والأماكن، وهي أشبه برحالة لا يطمئن إلى الكل، بل في الجزئيات تتحقق الرؤية وتتمثل الحقيقة، فقد ذكرت: الحمّامات - سيدي بوسعيد- نابل – قرطاج ...: كما أفردت لكل مدينة مقطعا شعريا يستعرض تفاصيل ما رأت ساعة الوقوف بها. ويمكن إدراج القصيدة في أدب الرحلة التي تقوم على الانتقال والتوقف لالتقاط المشاهد. بحيث تكون الشاعرة رحالة بين التفاصيل تستدرجها شعرا بلغة واصفة يشع منها الحزن ورتابة المكان، تقول :
( المدينة واقفة بين زمنين) و( وعلى كتفي أحلام مستحيلة)
( وأُودع قلبي تفاصيل المكان) ( أمشي في شارع العمر وحدي)
(من رحى الملحمة/ يتحول الصليل إلى موسيقى/ تبعث من ركام الذاكرة/ لتعيد الحياة إلى وتر حزين)
وجع الكتابة
لعل طقوس الكتابة التي ترتبط بالكتاب، تضطرنا إلى أن نتساءل عن كيف تتشكل الكتابة؟ أو كيف نفكك الشفرات الشكلية والتركيبية والدلالات الظاهرة، لكي نصل إلى النص الأصل، الذي هو المعنى الخفي لنص ظاهر...؟ إنها أسئلة تحتاج إلى جرأة الكلام وجرعة الدواء ....
إن كل النصوص مستعارة إذا عرفنا أن النص يتشكل أثناء الكتابة لا قبل ولا بعد. وما القبل سوى فكرة جنينية في رحم الذات بما تعنيه الذات من تشكل ثقافي ووجداني ومعرفي ...ولاستواء النص، يتداخل عدة عوامل لغوية واجتماعية ودينية ونفسية ... وهو ما يجعل النص الإبداعي لا يكتمل في عين المتلقي إلا من حيث الدلالة التي يمنحها ظاهره، وبفعل القراءة ... أما الزمان والمكان فيتشكلان مع الكتابة.
زمن الكتابة هو الكتابة ومكان الكتابة هو التحرر من سلطة الزمن. الكتابة إذن تحرر من الزمن والمكان، لأنها تحتفل بطقوسها المجردة المتعالية على الزمن والمكان الواقعيين. فالوردة لا تتجاوز لحظة التهيج الأولى حتى تسلم نفسها لوردة الكتابة، حيث يتمرد العطر على الوردة كما يتمرد على عطره أيضا، ليستسلم لعطر الكتابة. هو أمر يدل على أن كل الأشياء، لا تحمل معنى في ذاتها. ولا يتحقق المعنى إلا عن طريق التخييل الذي ينجبذ للتعالي. ذلك هو قدر المعنى الباحث عن معناه. وبه يكون الكاتب في متاه يوحد بين الأشياء والأشكال، يعبر القيد بقيد أكبر منه. أي أن كل اﻷشياء تتوحد لمجابهة الضياع. والكتابة هي انفلات مستمر من تهمة المعنى كي تصنع لها معنى. هكذا يقول الكاتب: ما معنى أن تكتب؟ فيجيب بأن فعل الكتابة لا يرتبط بالوعي بها. والكاتب نفسه، عاجز عن إدراك الحقيقة، رغم أن الكتابة في حضرة تقلبات النفس أمر ظاهر وجلي لديه، لكنه ليس بالمعنى الأوتوماتيكي. وإلا فكل نص يعبر عن الغضب فكاتبه كان على غضب وهلم مشاعر ...
إن اعتبار واقع الزمن والمكان والمشاعر وغيرها ليس سوى خدعة لا تحتملها عملية الكتابة. الكتابة تشكل مستمر أثناء فعل الكتابة. ولعل عملية المحو هي فعل تعبير عن إسقاط كثير من العناصر التي لا ترغب الكتابة في استحضارها، إنها بنية التدمير المتلاحقة. وكمثال على ذلك هل تقوم الكتابة بناء على الوعي بها حين تسقط الكلام عن طابوهات دينية أو جنسية أو سلطوية أو لغوية.... إنها عملية منصهرة في اللاوعي الواعي بالكتابة، فيغدو النص مبتورا مثقوبا، وكأن كيمياء الكتابة سحر يصنع آلياته الإبداعية في تعال عن الوعي بالواقع كمكون يذوب في ماء الكتابة. من هنا يصبح مكان الصحراء صنو مكان القطب الشمالي من حيث فعل ''النرفانا '' التي تحايث الكتابة كمبدأ للواقع المجاوز إلى واقعية الكتابة الأدبية المحفوفة بعمليات البناء والتدمير
إن الشاعرة أمال الصالحي تعيش قلق الرحلة من مكان إلى مكان. حيث يستعصي أمل التخلص من الواقع الملطخ بالانكسار. ويبقى الحزن آلية لسبر أغوار مشاعرَ تحملها رؤية الشاعرة على نعش الكلمات، بين ما هو إنساني وما هو شعري، حين تلتمس في وجع الكتابة عشقها الأبدي. فالديوان بالقدر الذي يحدثنا عن المكان الذي لا يشع منه سوى الأحزان، تقرنها الشاعرة بالكتابة، وكأن الكتابة هي مبعث لمناهضة كل أشكال العنف الذي يمارسه الواقع، فتصير لعبة الكتابة هي الوسيلة الوحيدة لخلق واقع معادل في الكلمات. الكتابة إذن، هي حديث مع الذات، ولأنها ثقافية، أصبح البحث عن معنى الوجود لا يتحدد خارج فوضى الأشياء التي تحمل معانيها في تاريخ المكان. وهو ما يشير إليه نصوص الرحلة عبر عدد من الأمكنة وضفاف الأنهار. وقد أتاحت للشاعرة أن تختبر مواجدها في تجربة الحب كما الحرب، وتكتب عن انفعالها، بل عن تفاعلها مع الإنسان والحيوان والطيور وباقي الكائنات. تستحضر تاريخ الإنسان وأسطورة الحياة. بل أمسى كل شيء مهمازا يحرك أشجانها في شعر الكلمات. فتنتزع صورها الشعرية من الماء والبحر والنخيل، كما تقف على مرتفعات المعمار وألوان الفصول والأشجار وغيرها. فتلمس في الصورة احتراق الذات الواقعة بين السؤال وحركية الأشياء. بل تتحد كل الأشياء في سقوط الواقع، ليرتفع جرح الكتابة سمفونية تترجم سقوط الأقنعة.
ففي قرطبة تفتتح الشاعرة قصيدها ب ( لو ) وهو حرف امتناع لامتناع. أي لا يحصل الأمر الثاني إلا بحصول الأمر الأول، وهو فعل الكينونة الذي لم يتحقق، لا في المكان ولا في الزمان. فتعلق الشرط بالماضي (كنت) لتأكيد عدم تحقق فعل الكينونة في قرطبة. فيتحول فضاء المدينة إلى فراغ لا يمكن ملء حيزه إلا بمخاطب مذكر (كنتَ). فالذات الشاعرة توزع حضور المخاطب في كل الأشياء لتعيد تركيبه من جديد في الكتابة. ويشكل الحضور والغياب عنصرين أساسين يستدعيان ثنائيات أخرى كالموت والحياة والحزن والفرح، الانكسار والأمل وغيرها ...
فالشاعرة إذ تبدأ النص ب ( لو) تقيم حدا فاصلا بين حالين. الأول متعلق بنفي الكينونة في المكان :
لو كنتَ معي في قرطبة
والثاني جواب توصيفي لحال لم يتحقق شرطه، فلامست العبارة عالم التخييل، من خلال تكرار الفعل : كنتُ – ركضتُ - كنتُ تأبطتُ – أفرغتُ – كنتُ غازلتُ – كنا – نحملُ – نحرس – ننشد – نرتدي – نطل – يتردد – تصبُّ – كنا تركنا - قصصنا
وعبر توالي الأفعال تعبر الشاعرة عن تمزق أصاب الذات وهي تكتب عن الأشياء والجمادات لتبين فداحة الشعور بالتفكك والعزلة، كأن لا فرق بين الواصف والموصوف، فهي تكلم ذاتها عبر موصوفات تخلت عن وجهها، لتسقط في لامعنى الوجود. وكأن المدينة نائمة تُشعر بالحزن والأسى والوحدة، بلا حركة إلا من حركة الذات التي يصورها الفعل المنساب في الذاكرة. وتصبح الصورة منزعا كليا من داخل الموجودات التي تشرك الشاعرة مواجعها ومواجدها.
ثم تعود الشاعرة إلى لازمة (لو كنتَ معي في قرطبة) لتحدد في الجواب رغبتها وحاجتها إلى من يكفكف دمعها: ( كُنتَ كفكفتَ دمعي) مما يؤكد طبيعة شعورها. فالدمع أقصى عبارات الحزن الذي سطرته الشاعرة في عتبة عنوان ديوانها، وهو ينطوي على كل معاني السقوط في شعرية حزينة، لها تراكيبها وسياقاتها التي لا تقدر على مدّ الجسر بين ال(أنا) المعذبة وال(أنتَ) الذي تحاصره الرؤية المتشظية في مرايا الواقع . ويصبح المخاطب المفرد مخاطبا جمعيا، وبطلا في ملحمة حزينة، لا يحدها المكان والزمان. هكذا لازم انتفاء الشرط انتفاء الفرح إلا ما يمنحه الحبر على الورق. وتكون الكتابة ملجأ ضروريا لمناهضة تعدد أشكال الحزن ( كم من حزن في المدينة) والمدينة كفضاء حاضن لقيم اجتماعية قوضها الإحساس وغيبها الوصل كحقيقة إنسانية ، سواء في الشام أو في براغ أو جنيف أو شفشاون أو تونس وغيرها. فتتحول الصورة الشعرية إلى عالم من التقاطعات بين الذات والأمكنة لتعبر عن حركية جوانية تتجاوز انصهار الزمن مع المكان، كوحدة كلية تنطوي على رؤية عدمية ما دام الموت سيد الحضور منذ رثاء الأب (أبي ...) وتصبح لفظة ( لكن) في هذه القصيدة تعبيرا عن موقف وجودي تراجيدي، لا يقوى على مجابهة الحزن، إلا بوجع الكتابة، تقول:
( لكنك لست معي/ تركتني لقارورة الحبر تغتالني/ تركتني شاعرة / أهب الحياة للكلمات من ملح دمي).
هكذا تتشابك الذات مع مجتمع المدينة في حزنهما واغترابهما. فكل منهما يعزي الآخر في إحساسه، يعيش جرحه في صمت اللغة الشعرية. تصوره الشاعرة في مشهدية حوارية بين الأنا والآخر في مدينة "مالقة" وهي تؤمنُ باستحالة اللقاء، تقول:
( اشتبكت خيوط البصر/ بجسد غريب/ تلعثم الحبر بين الأصابع/ تجاربي في الحب ملطخة بالحبر/
تسلّلت من القوافي/ حين صار الحرف يوجعني)
بذلك تصبح الكتابة جرحا ووجعا من خلال صراع بين الأنا والآخر، يعكس اختلاف ثقافتين ومكر العلاقة بين الشرق والغرب. فتتمنع أن تنصهر في الآخر الغريب الذي يرى فيها قصيدة لجسد أنثى عربية. تصر على أن تقدم درسا في الحب الذي يتعالى على مفاتن الجسد . فتعبر عن غربتها تجاه ثقافة الآخر، الذي يريدها أن تكون في يده أنثى ، تقول على لسان الآخر:
(كوني قصيدتي الأخيرة لأكتب أجمل أشعاري)
فترد عليه :
(ردت بثقة امرأة عربية/ كفكف أمنياتك سيدي/
أبوابي موصدة/ تركت الحب هناك)
والشاعرة إذ تمتلك طاقة تعبيرية خاصة، تؤمن بأن الحياة تكمن في الكتابة، رغم ما تثيره فيها من إحساس بلا جدوى إسالة الحبر على الورق. ولما كان ذلك قدر الشعراء الذين لا يمكن أن يحيون خارج الكتابة، تسقط الشاعرة في شرك الحرف الشعري، بما أن الشعر لا يقوم إلا في مضايق البحث عن الحقيقة الفلسفية. وكأنها تقدم ذاتها قربانا لأسئلة غائرة في الوجود، لا تستثني أن يكون النصح أحد تجليات الإحساس بالحزن تجاه وطن يموت في قصيدتها ( يا بلادي اتعظي)، تقول: ( بلادي تكتب شعرا لغيري/ بلادي موت يمشي على قدمين/ يا بلادي ألا اتّعظي ! / مات نيرونُ ولم تمت روما / يموت الجلاّدون ويبقى الوطن).
هكذا تغدو الكتابة جرحا آخر، ففيها تقيم الشاعرة خيمة الحزن الذي يطاردها أينما حلت وارتحلت. فتجتر الذات وجودها في مجابهة واقع الكلمات، التي عبرت عنه بألفاظ الشعر والقوافي والقصيدة، كقولها ( في قصيدة "هوى على ارتفاع ثلاثين ألف قدم"
(تكبر الجروح الصغيرة/يصير الشعر مراثي عند باب الحناجر. ).
وفي قصيدة"مساء لا يشبه المساءات" تقول:
( أيّ مساء هذا الذي لا يشبه باقي المساءات؟/ عذرا رسولَ الشِّعر/ على فظاظتي/
ما عدت أريد من الحب/ لا البدايات ولا النهايات/ سأحبس هذه القصائد الممتدة في دمي )
وفي قصيدة "انصرف" تقول:
( ما الحب؟ يا صاحبي.. / يا صاحب الأمس../ إذ يجعل العين نهرا/ والحزن عمرا/ يحرق فراشة الشعر/ حقل السنابل/ ونجوما مهاجرة..)
وفي قصيدة "لو كنت معي في قرطبة" تقول:
( نرتدي قميص الشعر/ نطلّ على أشعار ولادة/ يتردّد صداها في بيت الخلافة/ تصبّ القوافي في أقداح زيدون)
ولا تكتفي الشاعرة باستحضار الألفاظ المتعلقة بالكتابة، بل تستحضر أسماء شعراء وأدباء ورسامين مثل فرانز كافكا وفان جوج وياقوت الحموي لتؤكد معاناة الكاتب. تقول حين احتواها مكان براغ :
( في مدينة كافكا / تقرأ حزنهُ / وسنواتِه الأربعينَ/ حاضرٌ يلامس أمسهُ / تراه متنقلا في نهر"فلتافا" إلى برلينَ/ يصبح الزمانُ غريمهُ/ يؤدّي صلاة العاشق وحيدا / في محراب الكتابةِ/ وحين يفرغ يُحرق أعمالهُ)
لكن الشاعرة سرعان ما تحن إلى التاريخ العربي حين تضيق المسافة بينها والمكان، فيلتبس عليها الأمر وهي تطأ تاريخ الباروكية لتحرك موجدة التذكر لأرض ( كانت مسرحا للقصيدة العربية) هكذا تصبح كتابة الشعر عند الشاعرة أمال الصالحي صناعة وتجربة تقوم على انصهار الثقافة العقلية بالأحاسيس والعواطف ، وهو فن يوحي بالجمال، كما يقول هيدجر:" تأسيس بالكلام وفي الكلام وهو اللغة العليا عند مالارميه، وسيد الكلام عند جاكبسن " .
على سبيل الختم
لم يكن من اليسير مجاراة القصائد الواحد والستين في الديوان، فكل نص يحتاج إلى قراءة خاصة. ولعل الجامع بين النصوص هو ما أعلنت عنه الشاعرة في نص العنوان ( كم جرحٍ في المدينة). وأنت حين تقرأ النصوص تقف على ما اعتبرناه مرجعا لرؤية الشاعرة، وهو طبيعة تناول المدينة، التي جعلتها مسرحا للرحلة في أفق الجرح الممتد في تفاصيلها، والتي تختزل رؤيا عامة إلى الكون والوجود. فعبرها استطاعت الشاعرة أن تستلهم صورها الشعرية بانسيابية سردية تؤكد أن الحزن عميق لا تسعه القصيدة إلا كمحرض على استحضار آليات تأويلية تقف على التاريخ والأسطورة والعمران والأدب. منصهرة في الذات الثقافية غير المطمئنة. وعدم الاطمئنان في رحلة الشاعرة يعتبر من القلق الملازم للكتابة التي لا تتحقق بغير الإحساس بالألم. الألم وحده هو استدعاء لتجديد لغة البناء الشعري، وهو ما تحقق في لغة الرفض للواقع، وتعويضه بشعر الكلمات.
الشاعرة إذن، تقيم بنيان الرؤية من خلال لغة الشك في الأشياء. والحب رسولها الأول للإبلاغ عن حجم الانكسار، ولم يكن الانتظار غير نفي لصفات الأمل. وتكتب باحتراق يتمدد في دم القصيدة منتشية بعبثية تمنحها أرق السؤال عن واقع الشتات.
والشعر وحده عند الشاعرة هو الذي يعترف بأن الذات في تجليها تراهن على الفناء فيه، حيث يتصادى الجرح بالجرح وتتمنع القصيدة إلا أن تهب بهاءها في الألوان. فيمسي لون القصيدة أشياء بلا أسماء، فحين يبلع الليل ضوء النهار، تصر الشاعرة آمال الصالحي أن تكتب بنور الحبر لتعبر عما تهشم في الواقع، تقول:
سأحبس هذي القصائد الممتدة في دمي
أهيل على ظلها التراب في آخر الليل
وأمضي
فتجربة الشاعرة أمال الصالحي تنصت للأعماق، تعبر عن التحولات الحضارية والثقافية، بحثا عن الكينونة الذاتية في الشعر، متوسلة بالصورة الشعرية الجديدة، في لغة غير مألوفة تحمل عمق الجرح وقلق السؤال، فجاء الاستفهام في غير حقيقته، مما أعطاها بعدا انزياحيا لاستحالة الجواب، دليلا على رؤية الشاعرة المأساوية لواقع مجروح ، جرحَ الذات الثقافية للإنسان العربي الجريح ....
إدريس زايدي



