الدمع الذي لا ينزلق نزولا على خدود تلك المدينة.
الدمع الذي لا ينزلق نزولا على خدود تلك المدينة.
محسن الأكرمين.
فصل من رواية في طور الكتابة (ذاكرة مدينة)
تزامن يوم العطلة بيوم الأحد بداية، في تلك المدينة الوضاءة. مدينة كانت تستند على قوة التاريخ الوسيط، وهي لا تزال غارقة في صمت مطبق تبحث عن خلاصها التام وبلا مناوشات سلبية في الفوضى. في تحد مباشر لكل الهدوء والصمت، كان أنير يتجول في تلك الفراغات الناجية من لغو كلام الفراشة وأصحاب الكراريس (عَنْدَاكْ... عَنْدَاكْ...). حينها كانت المدينة طيعة في غياب أنفاس المارة الحانقة، وتزيد فيضا من الجمال والصدق.
تلاشى الظلام بخفة سريعة في فصل الخريف، حين سطعت شمس فجر جديد بتلك المدينة المنهوكة من كثرة عقوق قومها. لحظتها بدأت الحياة تزيد متسعا من الأرجل المتأنية عند تشعبات الأزقة الضيقة والملتوية والفرعية. مرة كانت الأصوات هادرة عاصفة بحركة الغدو، ومرات هادئة بسكينة خروج المصلين من المساجد بعد قراءة الحزب.
رجل مسن ذو لحية بيضاء أنيقة، كان يمشي مسنودا على عكاز، حين تفقده أنير وجها لوجه وعينا بعين، توقف الاثنين عن الخطى، وكأن الزمن هو الذي توقف بالاسترجاع لذكريات المكان. كانت ذلك اللقاء الفجائي تسوده لحظة من صمت ثقيل، وكأنهما في تمرين صعب لفك شفرات سؤال امتحان أخير في كشف التاريخ المسكوت عنه بالفطرة، ومن أنشأ تلك المدينة العصية؟
بحق الله، العظمة التي لا تموت ولا تندثر بالانتهاء في تلك الساحة التاريخية. كانت المدينة رغم صمتها المطبق عنوة روحا حية لن تموت أبدا بأثرها العمراني فهي سيد الامتداد. قد تسقط في لحظة غير مرئية من القمة نحو الحضيض الأسفل، ولكن التحدي يبقى مجنونا بالعودة نحو الأبهة و تسلق القمة بلا معاودة السقطة.
حين وقف الرجل المسن أمام أنير كانت القلوب تتحدث بطلاقة (ويفي) خفي، والإحساسات الكامنة في القلب حبا لذات المدينة، ثم قال الشيخ وبلا مقدمات: أنا مجرد رجل فَقَدَ وأضاع كل شيء، ما عدا قدرته أنفته على استعادة تاريخ تلك المدينة المنسية في أحلام القوم وصناع القرار !!! قلب أنير يخفق كقرع طبول حرب آتية من أبواب تلك المدينة المغلقة والموصدة أمام قيادة التغيير. أحس كأن الأرض تَميدُ به غثيانا ودوارا في تلك الساحة، وتهتز بدون حركة عصيان، ولا بأحداث ثورة وادي بوفكران الباقية في المخيلة الشعبية. كانت كل أفكار أنير تستجلب البحث عن تلك الخيوط الرابط بينه وبين هذا الرجل المسن في بياض اللحية والثوب، والذي خرج من حلم فجر دافئ وبلا منبهات دالة على وجوده الحقيقي. كان أنير يفكر في أنه وقع في فخ سميك والذي قد نصنعه بأيدينا وتفكيرنا وسياساتنا غير المتزنة في غياب أفق التخطيط لأحلام وحياة سعادة تلك المدينة.
كان المشهد غير عادي بالمرة، بل فيه نوع من توابل أسطورة مدينة تصنع الأحلام الوردية في الكلام المباح، وتعتز بالذكريات التاريخية، وتفقد بريقها في حاضرها ومستقبلها. كانت بِضع من دمعات أنير تنهمر دون أن يشعربحرارتها، ولم تقدر على الانزلاق على خدود تلك المدينة التي تدعى بالتاريخية. إنه تحد حي وحقيقي لتمثله الشعوري بتلك المدينة، فقد كان يبحث عن ملمح الصوفي سلطان الأولياء مولاي عبد القادر الجيلالي بلا سند روحاني. كانت عيناه تتقد نورا داخل فضاء وجهه الوضاء وبتلك اللحية البيضاء والمنسقة، ومما زاد المشهد وضوحا تلك الأنوار الساطعة من شمس صُبح بارد ومستملح الإشرافات.
من أمام معبد الموسيقى وآلياته التاريخية المليحة بمتحف رياض الجامعي، كان وقوف سقاية سبع عنابب أنيقا والتي ترتبط بالإرث التاريخي بذات المدينة، وتزيد ساحة الهديم روعة وبهاء، وتنعم على قبلة باب منصور برودة وبدون تكييف اصطناعي يعمل بأقصى حدته. كان المكان يتلألأ مثل المجوهرات التي لا تفتقد بريقها الذهبي حتى وإن تزينت بها عجوز شمطاء.
في تلاشي ثواني الخوف عند أنير، قبَّلَ رأس الرجل المسن تيمنا بعرف أهل تلك المدينة الطيبة. لحظة طلق الصمت طلاقا بائنا والذي كان قد عمر رأس منذ زمن البدايات، ومن عهد زمن الجمر والرصاص الذي خلف تأخر تلك المدينة المنسية من قاموس العدالة المجالية . وقف أمامه بأنفة الرجل غير المستهلك لفراغات و بياضات تلك المدينة في تنمية العز والكرامة. بحق كانت كلمات أنير آخر نغمة تسمع في أبواب قاعة متحف رياض الجامعي، وهي آتية من كل تلك الآليات الموسيقية المعروضة باختلاف الزمن والجنسيات، ومن كل الأمكنة التي سكنت ذات المدينة النَّاغمة (نغمة) في الفن والثقافة، ومن كل أنواع الإثنيات والقوميات بتنوع الألبسة واللغات واللهجات. فرح أنير والشيخ المسن كذلك، من تلك الأنغام الوافدة من قرب المكان للقلب والسمع بعدما كانت تلك المدينة غارقة في صمت سائد ومطبق.
أنير لم يُلق باللوم على أحد من سوء خطى تلك المدينة المتأخرة في تمييز الخير والتمكين، بل وثق للحظات صادقة مع التاريخ المنسي بتلك المدينة المنهوكة من شدة الترامي على المسؤوليات وبلا أثر ناضج. في هذا التحدي المادي من التاريخ غير الصامت رمى الشيخ بعكازه أرضا، بينما كان أنير يرتشف سبع رشفات متأنية من صنابير لا تنضب في سقاية سبع عنانب العالمية. حين استدار أنير بالحمد والتهليل من السقوى، كان عكاز الشيخ مرميا على باب متحف رياض الجامعي بتك المدينة النائمة في صبح عطلتها ونهاية أسبوعها. رفع أنير عكاز الشيخ المسن وجعل واقفا عليا حتى لا تزيد تلك المدينة اندحارا من الأسوأ نحو الأدنى منه. وقف ونظر إلى المكان ورفع كاميرا هاتف ليس للتسلية بل لتوثيق لحظة صادقة في العودة نحو حلم ذات المدينة مع شيخ المسنين.


